خلال الأيام الماضية، احتفل الثوار في أقطار عربية عدة بحلول الذكرى الثانية لما عرف إعلامياً بـ «الربيع العربي». تتعدد الإشكالات في ما يخص هذه الموجة من التغيير التي اجتاحت الوطن العربي في أعقاب صرخة محمد البوعزيزي المدوية، ابتداءً بالتسمية، وانتهاءً بالمآلات والنتائج، ذلك أن البعض يرفض استعارة اسم الربيع، باعتباره مسمى استعماريا، فيما هناك آخرون من الأكاديميين الصارمين يتوقفون عند وصفها بالانتفاضة، ويتحفظون على ما يرونه تجاوزاً بوصفها بـ «الثورة». أما العربي الثائر الحالم، فمشغول بصناعة الحدث والتأثير به، بغض النظر عن المسمى الذي سيحسمه التاريخ يوماً ما. الجدل حول المسمى - بطبيعة الحال - لم يكن صاخباً، بقدر الجدل حول ما وعدت به موجة التغيير العربية، وما أرسته وما أسقطته من مفاهيم وقيم، من خلال المساهمين فيها من جهة، والمنظرين لها من بعيد من جهة أخرى. فخلال العامين الماضيين كان «تدشين مرحلة ما بعد الأيديولوجيا»، أو عبور خط الانتماء الأيديولوجي بشكل أدق والالتقاء حول مفاهيم مجردة، كالعدالة الاجتماعية، الحرية، حقوق الإنسان، المُواطنة والديمقراطية كان هو العنوان الأبرز الذي نظّر له كثيرون، باعتباره أحد أهم منجزات موجة التغيبر العربي المستمرة منذ عامين، وهو رأي صمد خلال المرحلة الأولى من موجة التغيير - المرحلة التي تسبق إسقاط النظام - ثم ما لبث أن سقط بعد إنجاز هدف إسقاط النظام، لنشهد بعدها مرحلة الصراعات الأيديولوجية، وإن بدرجات متفاوتة من قطر عربي إلى آخر في المرحلة التالية، فما الذي تغيَّر منذ بداية هذه الموجة، حتى هذه اللحظة التي بلغ فيها الاستقطاب الأيديولوجي ذروته في تونس ومصر؟ هل بالغ المنظرون بتفاؤلهم أم أخطأوا بقراءة المشهد ببساطة؟ الحقيقة أن الفكرة الحالمة التي تبشر بتجاوز الانتماءات الأيديولوجية لاقت رواجاً - برأيي- لأنها قدمت مخرجاً للمأزق العربي المستمر منذ حقبة ما بعد الاستقلال، فطوال عقود عاش المواطن العربي صراعاً هوياتياً أيديولوجيا بين اليمين واليسار، العروبة والدين، ثم ما لبث أن زُج به في صراع هوياتي قُطري مصطنع، وعندما هبت موجة التغيير بدا وكأنها ستعفينا من الإجابة عن سؤال الهوية، وتقفز بنا للمرحلة التالية، فاحتفلنا بفكرة تجاوز الأيديولوجيا بتفاؤل مفرط، رغبة منا بإسدال الستار على هذا الصراع الذي أنهكنا طوال العقود الماضية، لكننا كنا واهمين ذلك أن صراعاً من هذا النوع لا ينتهي ويزول إلا بعد حسمه نهائياً، وهذا ما لم ينجح به العرب حتى اليوم، بالإضافة إلى أن المبشرين بهذه الفكرة - والذين يصدف أن غالبهم من المؤدلجين - لم يدركوا أن المفاهيم المجردة لا تمثل انتماءً بديلاً يتم تجاوز الأيديولوجيا لصالحه، فإن تجاوز الناس فعلاً الأيديولوجيا فنحو ماذا؟! وهو سؤال مستحق طرحه أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة»، ومازلنا بانتظار الإجابة العربية.
رابط المقال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ما رأيك في التدوينة؟